اخر الاخبار

آخر القصائد
آخر الأخبار

الاثنين، 26 أغسطس 2013

مقصدية الحكمة في شجر الحكمة: الناقد محمد قاسم الياسري



الناقد محمد قاسم الياسري

ان غاية الخلق إثارة النشوة العارمة من خلال الإحساس العميق بوجود ماهو موجود فعلا في هذه" الغاية" بعيدا عن متغيرات العقل ورصانته ـ أو توليف قسري بين المفرح والرصين بعد ان يقوم المفرح بإيقاظ الرصين من ثباته المغفل المكرور ليواكب صنعة الحياة الحساسة المرهفة الدقة, أو الإقرار جدلا ان غاية الخلق ايلاج الامكان بما هو آني ـ ليس إقرارا ميكانيكيا كما يحلو لبعضهم ان يؤدلج ـ وإلا خرجنا عن صنعة الحياة لتسقط في صنعة الثبات والتكرار المقيت بعد ان نقحم العقل بتشنجات النفس ذات المزاج الدقيق والحساسية المرهفة.
 يكون الإقرار اذن بما يدخل ضمن المسقط الضوئي للمقصدية الأدبية المحضة ـ أي لايخرج عن النطاق المنور للهوية الفردانية مشيعا بذلك ـ دون ان يدري ـ نهجه المعقد الواعي المنعتق عن دوغمائية المنظور المنفتح أصلا على تاريخية التفكير والشرعية متعددة الازدواجيات. ان الأمور التي نثمنها تتمثل في صلتها بالوجود او في اقل درجة في صلتها ببعض الوعي او الشعور البشريين. ان المنطق والاخلاق والرياضيات والسايكولوجيات والبنيوية.. الخ يمكن ان يكون لها معنى وصحة فقط بالقياس الى العقل البشري. من خلال قرائتي لديوان شجر الحكمة أثيرت لدي المسائل عن مقصدية النفس وتاريخها الذي اخذ يبتعد كثيرا في الماضي ليؤسس لـ "ظاهرة" ثقافية جذرت أحقيتها في الأرض الصلبة.كان هم الشاعر ماجد البلداوي في مجمل قصائد الديوان هو الكشف عن معنى لكل شيىء يواجهه او يدهشه كـ " موجود يفكر" متصالب على ارض " الواقع الفعلي بعيدا عن إشكالات الفهم القبلي او التناص المبرر الذي يفرضه مبدأ الحوار مع" الآخر" هنا أو هناك.. لان الوجود الإنساني هو ما يوجد فقط في حالة حوارفي الوجود يجد المرء الآخر ـــ وكما يرى ميخائيل باختين ان الوجود الإنساني نفسه هو الوجود المتغاير الخواص بصورة غير قابلة للاختزال. من هنا نستطيع ان نحدد إذا لم نجزم ـ ان كلية ديوان شجر الحكمة تستمد مصداقيتها من كونها محددة بقسرية اللهاث وراء استنطاق مغزى واحد هو" المعنى" المعنى لكل شيء وقيمة، بكل ماتحتمله الكلمة من طاقة واستجابة وتقييم.



هنا.. أو هناك= المسافة ضيقة
لم يكن لي سوى الاختيار الأخير
فعاودت جمع الوريقات في هداة
ـــ أنت لاتحسن الاختيارولكن شيئا من الهم يقلقني
فتسللت نحو الوريقات
مرتبكافاستحالت دخان.



تعددية المعنى لشيء واحد أو لذات واحدة أو لظاهرة محدودة بزمنها كان هم الشاعر البلداوي ـ الأشكال في كل قصائد الديوان وأحيل الى القارئ ليشترك في بحث مرسى محموم عن منطقة طالما أرقت الأذكياء.. البحث في وجه طائر القرى الشاعر عيسى الياسري لاستكناه ماهية عجز الشاعر عن بلوغ أغوارها.

واهم أنت



إذ تستضيء بنزفك
مستسلما لافتراضات من سبقوك،
وخلوك تعزف بالشفة اليابسة
تجلس.. كرسيك المتورم
يطوي هموم القصيدة
يطويك سرا
فيا رجلا اتعبته المسافة.
البحث في شجر الأرض.. شجر الروح، شجر الحكمة عن احتمالات مقترحة عن شهوة الحقيقةـ استنطاق نخلة الروح، المدن الجنوبية، النخل والماء والسنبلةـ رؤيا ارتحالات زهرة النار مع "دون كيشوت" العالم الثالث هذا المد يكبر والصدى ينداح والأفاق تبعد والمسافة تلتقي وعيوننا تعبت من التحديق في المرآة أو في الطين، في زفرات روحي الموقدةان المعنى الذي ينطوي عليه النص الأدبي إنما هو اثر يوازي القصد الذي ينتجه أي ان البنى الفكرية التي تكمن في عمق النفس يجب ان تعد أمثلة للسلوك الإنساني، أي انها لاتشير الى معميات كبرى بل ان التزامات ومواقف أولئك الذين ينتجون هذه الأفكار في سياق ظروف معينة وراهنية محددةـ وبعبارة أخرى ان المعنى ـ حالما ينعدم الحافز الباطني له والدافع الإنساني أصبح انحرافا نظرياـ إذ ان النصوص لاصفات لها" بحد ذاتها" بل تأخذ هذه الصفات من الذين يستخدمونها.. فلغة النص لاتعني أي شيء أبدا حتى لو انطوت على عمق وتصوراتـ إلا إذا أضاف لها( الفاعل) الذي انتجها هذا المعنى,إننا غير مقيدين بأنماط محددة وبفرضيات معزولة عن ظروفهاـ ولما كنا كذلك فنحن أيضا غير بعيدين عن فعل التأويل ـ والتاوي مرتبط بخبراتنا المرجعية المتراكمة وادراكنا الذي يعني الكثير ولانستطيع ان نذهب بعيدا لسبر غور القصد الأدبي خارج أو دون التأويل ـ والتأويل يوفر لنا مساحة من امكانية إنتاج نوع من المعنى المرتبط بظرفهـ ان في حالة القراءة أو في تثمين النص " المجهد" والفاعل في المعنى السياقي والدلاليـ هو هوية المؤلف وقدرته في نقل الحقائق الكبرى بلغة عاليةـ وكذلك هو زمن إنتاج النص ـ أي الحاضر الراهن المعول عليه في نقل احساسات" التجربة" وتعويمها على سطح" أذهاننا" لتتحول الى متعة وفائدة وحرية اعتقاد بعد ان حققت حالة الاستجابة المقبولة.ليس فقط في النص المكتوب، كذلك نجدها في النصوص الشفاهية كالأمثال والأقوال المأثورة والأشعار الشعبية التي يتداولها الناس البسطاء عموماـ تلخص بإيجاز وكثافة كل الخبرة التاريخية والاجتماعية التي تراكمت على مر السنين وتنطوي على الحكمة العميقة والمعاني الخفية المشربة بروح" الجماعة" المنتجة الصنعة لأمجاد الحياة البعيدة عن سطوة الزمن الذي يحاول طمس معالمها لذلك ظلت محافظة على أشكالها" اصطلاحات جاهزة وأشكال حاضرة وتعاليم مصوغة بكثافة على احسن مايكون" هناك نص للبلداوي وضعه في متن الغلاف ـ موحيا للقارئ بهويته ومسؤوليته إزاء مايضمه الديوان من هاجس " رؤيا العالم" من خلال وعي الخوف.طارد الشعر خوفي، وأوقفه، أغلق الباب دوني عليه، وادخله المقبرة. ان قابلية المتعة والاعتقاد بمصداقية" المعنى" قابلية ترتبط ارتباطا وثيقا بالعادة واليقين الذي يجيء بعد سلسلة من معاناة الصدق واللاصدق متطابقة مع متطلبات كل حالة في " الواقع" وفي " الحاضر الراهن" وليست دليلا قويا على ديناميكية ردود أفعالنا الفكرية بل هي دليل على الأسلوب الذي تستطيع فيه عقولنا ان تمتص هذه الحالات بعمليات آلية لها كامل الحرية وتفرزها على شكل قناعات تترسب عميقا في دواخلنا أولا ـ ثم بعد حين تفرزها إلى الخارج ـ الى حيث إثراء الوجود الذي يحيط بنا ـ قوة وأخلاق وقانون يدخل ضمن الحالة الطبيعية ويخلق عالمه الخاص به ضمن التقاليد ـ والذي يكتسب شرعيته على الفور يقول الشاعر البلداوي:



على وتر متعب كنت أغفو
فتنسل من جسدي رعشة
ويكون الذي لايكون.



ان دعاة الفهم الكلي والشمول المحيط بكل شاردة وواردة مرتكنا الى تاكيدات قبلية مسرفة بالثقة والصمود عادة مايقعون في مطب النسيان الذي يأتي من داخل جدلهم على أشكال نقطة مفرطة الحساسية أو هنة ضعف نسوا وتناسوا فصلها عن الكل وتسليط الضوء عليها أو على ظواهرها" احتمالات وإمكانيات" في نقدنا الحديث يكثر هؤلاء" التوتاليتاريوم" وتكثر معهم المغالطات تكمن المغالطات عادة في مفارقة الانكشاف الكامل أمام نقطة الضعف" المتناهية الصغر اوالكبيرة سواء بسواء" لان مقولة الشمول تؤكد ان الوهم المنهجي كامل ومحيط بكل شيء كالعدم محيط بكل موجود ـ والاستثناء يؤكد القاعدة. ان التأكيد على فهم وحيازة الكل يدخل في طابع الشرعية كما انه يقف على طرف من " الواقع" و" الوقائع" بوصفه عقيدة تاريخية لاريب فيها ـ لهذا السبب عينه فان دعوى استحالة" الكلية" بالمعنى التقليدي يقتضي جرأة " تاريخية" تنسحب على مستوى الأفراد أو الجماعات من مطب الافتراض الملغي على طبيعة عامة لحالة الكل حتى نتمكن من البحث عن السبل المفتوحة لمعرفة حقيقة الكل بالتخلي عن القضايا الكلية في النظرية التي دخلت خانة" التقليدية" اذن فأما ان تكون شمولية الوهم نفسها رغم كل المظاهر ناقصة على الأقل ـ كما أسلفنا ـ في نقطة واحدة من حيث ان تلك المعرفة تصنع الدعوى الى الحقيقة التي لايعتريها النقص أو الوهم لاسبيل الى النفاذ فيه حقا، وفي هذه الحالةـ حتى هذه القضية تتلبس مسوح الشرعية البديئة، وهكذا يتأرجح النقد جيئة وذهابا في أرجوحة المأزق الذي يؤدي دور المهزلة المعكوسة التي تدعي انها قد سورت نفسها بحواجز" استطيقية" تحيط بكل مهرب متبق للروح الإبداعية الحرة، مفوتة كل امكانية للتسرب الى حيث" الحياة الروسووية" نسبة الى جان جاك روسو ببكائياتها على فقدان النزوع الطبيعي في الحضارة ـ ولكنها التماثلات الوسطسة بين المفهوم الكلاسيكي للسعادة ويوتوبيا المستقبل. فالحق شمولي كأي مفردة ملائكية والباطل موجود كوجود الحق ـ قديم قدم الاستسلام الى الغوايات ـ وهناك صراع متعال أكثر مماهو جدلي بين الحق والباطل ـ لاكما يدعي سيئو الصيت في وجود صراع بين حقين والإحالة المتبادلة للاضطهاد والتعسف بين طرفي اللعبة ـ أو الانحلال والتلاشي تماما في اتونها ـ تأملا أو خوضا لتثبيت مفهوم شامل للإثبات ـ أو استحضار موقف قيمي رافض ـ كل ذلك يسحبنا لاعتقاد لامفر منه ان العملية مقررة رغما عنا ـ وكما يقول أرسطو في معرض نقده لافلاطون : ان معرفة الخير وحدها لاتستطيع ان تدفع الى فعل الخيرـ والوهم لاينطوي على وعد التحرر من الوهم.



ــــــــ نشرت في جريدة القادسية الصادرة يوم الاثنين 25/تموز/1994


0 التعليقات:

إرسال تعليق